12 نوفمبر 2014
بقلم نور البزّاز، عضو فريق الشؤون السورية في منظمة العفو الدولية
بعد انقضاء خمسة أشهر تماماً على اختطافهم واحتجازهم رهائن على يد الجماعة المسلحة التي تطلق على نفسها “الدولة الإسلامية” (داعش)، أخلي سبيل مجموعة من 25 تلميذاً من كوباني، على نحو غير متوقع، في 29 أكتوبر/تشرين الأول.
كان هؤلاء هم الدفعة الأخيرة من الأسرى، من أصل حوالي 150 تلميذاً ينتمون إلى المدينة ذات الأغلبية الكردية، الواقعة في شمال سوريا، والتي ذاقت الأمرّين جراء تعرضها لهجمات “داعش”. كان هؤلاء في طريق العودة من حلب، حيث كانوا يقدمون امتحاناتهم النهائية في مايو/أيار، عندما أوقف أعضاء من “داعش” باصهم المدرسي عند نقطة تفتيش واختطفوهم جميعاً. وفي الأشهر التي تلت، جرى الإفراج عنهم بالتقسيط. ويروي من تحدثنا إليهم منهم قصصاً مروعة عما مروا به من فظائع أثناء وجودهم في أسر الجماعة المسلحة.
وفي سوروتش، وهي بلدة تركية تبعد أقل من 10 كيلومترات عن كوباني، أخبرني لاجئون من المدينة المحاصرة كيف أن التجربةالمفزعة التي مر به الطلاب لم تكن سوى عينة لعمليات اختطاف عديدة قامت بها “داعش” خلال السنة ونصف السنة منذ بدء حصار الجماعة المسلحة لمدينتهم.
أحد التلاميذ المفرج عنهم، وهو صبي يبلغ من العمر 15 سنة وطلب عدم ذكر اسمه، وصف الشهور الأربعة التي قضاها بين يدي “داعش”، حيث روى تفاصيل التعذيب الذي مارسته الجماعة المسلحة ضد التلاميذ الذين كانوا يخالفون القواعد الصارمة المفروضة عليهم، أو حاولوا الفرار.
فإلى جانب إجبارهم على حضور “دروس دينية” يومية، كان ينتظر من الطلاب التقيد بلائحة من القواعد الصارمة شملت النوم عند الساعة 10 مساء، والبقاء في غرفهم كل الوقت باستثناء أوقات الصلاة، والحفاظ على الهدوء. وكان من يتبين أنهم قد خالفوا القواعد يعاقبون، وغالباً بالضرب.
أحد الطلاب وصف ما تعرضوا له على النحو التالي:
“تتألف المدرسة التي كنا محتجزين فيها في منبج من طابقين؛ حيث احتفظوا بنا في الطابق العلوي، بينما كان المقاتلون ينامون في الطابق السفلي. كنا جميعاً نشعر بالرعب من لطابق السفلي؛ إذ كانت هناك غرفة أسموها ‘غرفة التعذيب’. وكانوا يأخذون التلاميذ الذين يسيئون التصرف إلى تلك الغرفة ويضربونهم؛ وهي الغرفة التي كانت فيها جميع أدوات التعذيب، كالكهرباء وخراطيم المياه والحبال.
“وكان من يمسكون يهم وهم يحاولون الهرب يضربون في الطابق العلوي، أمام الطلاب الآخرين. وأعتقد أن هذا كان بمثابة تحذير للطلاب الآخرين، ولكن لا أعتقد أن الأمر سار كما يريدون. كان الاعتقاد السائد بيننا جميعاً هو أنهم لن يخلوا سبيلنا أبداً، ولذا فبينما كان من المروع مشاهدة الآخرين وهم يضربون، كان الأمر لا يستغرق أكثر من بضعة أيام حتى نتجاوز خوفنا لتحاول قلة من الأولاد الفرار مجدداً.
“حاولت الهرب، وأمسك بي مع ثلاثة أولاد آخرين. علقوني من السقف من معصمي لنحو نصف ساعة.
“ثم ضربوني أمام الجميع؛ كان هناك ثلاثة منهم يضربوننا نحن الثلاثة. استخدموا في ذلك أيديهم وأرجلهم وخراطيم المياه. ثم نقلت إلى الطابق السفلي وصعقت بالكهرباء. قاموا بتثبيت ملاقط بأصابعي وشغلوا الكهرباء خمس مرات.”
وقد جرى توثيق استخدام الكهرباء وأسلوب التعذيب بالتعليق من المعصمين بالسقف، الذي كثيراً ما يشار إليه باسم “الشبح”، على نطاق واسع في السجون ومراكز الاحتجاز في سوريا، ويعتقد أنه شائع الاستخدام من جانب قوات الأمن وأجهزة المخابرات التابعة لبشار الأسد.
وطبقاً لما قاله الطالب المفرج عنه، فقد شاهد صديقاً له ينقل إلى مستشفى يخضع لسيطرة “داعش” عقب تعرضه للضرب. وقال إن الصبي أصيب بعدة جروح خطيرة في رأسه قبل أن ينهار.
“بدا زائع البصر وسقط على الأرض فجأة. فنقله المقاتلون على الفور إلى المستشفى وأعيد بعد ثلاثة أيام، ولكنه لم يكن طبيعياً. بالكاد كان يتحرك طيلة 20 يوماً؛ وإنما كان يتكلم فقط. وبدأ بالتحرك بشكل بطيء قبل الإفراج عنه بفترة وجيزة.
“لا أتمنى لأحد أن يقع في أيدي هؤلاء الناس. فبعض التلاميذ كانوا يفقدون الوعي لمجرد الخوف عقب مشاهدتهم عمليات الضرب التي كانت تتم لمعاقبة من أساؤوا التصرف أو حاولوا الفرار، ولذا يمكنك أن تتصور مدى وحشيتهم. أتمنى أن لا يمر أحد أبداً بمثل هذه المحنة مرة أخرى.”
كان صوته المرتجف يذكرنا بأن هذا ليس سوى صبياً في الخامسة عشرة، ومثل عشرات التلاميذ الآخرين الذين اختطفوا، فهو مجرد طفل.
أما بالنسبة لأولئك الذين ما زال أقاربهم في حجز “داعش”، فهذه القصص، مثلها مثل أشرطة الفيديو الدعائية التي تبثها الجماعة، إنما تزيد من الرعب والهول الذي يشعرون به وهم ينتظرون تلقي ولو خبر عن مصير أحبائهم.
فقبل بضعة أيام فقط من الإفراج عن المجموعة الأخيرة من التلاميذ، حدثني “عمر”، وهو والد أحد الصبيان الذين كانوا لا يزالون في أسر الجماعة، عن الشك المطبق والخوف الذي يلف حياته وحياة زوجته قائلاً:
“نخشى أن ندق جرس الإنذار، ونخشى أن نسلط الضوء على أسر ولدنا في وسائل الإعلام. فلا أحد يعرف كيف تتصرف الجماعة، أو كيف سيكون رد فعلها. ومن غير الممكن أبداً التنبؤ بسلوكها.”
وفي الحقيقة، لم يكن قد مضى سوى بضعة أيام حتى أخلي سبيل ابن عمر مع الطلاب المتبقين.
عقب إطلاق سراح عمر، اتصلت بالوالد لتهنئته. قال إنه لم يعرف لماذا احتفظوا بابنه كل هذه المدة، أو لماذا أخلوا سبيله، وكل ما يعرفه أن هذه التجربة قد خلفت بصماتها المريرة على العائلة:
“عندما يكون لديك طفل، فمن غريزة البشر أن يفعلوا كل ما في وسعهم لحمايته. هذا ما كنا نشعر به؛ كنت مستعداً لفعل أي شيء لاسترداد ابني، ولم أكن قادراً على شيء. وهذا كان مبعث ألم شديد.
“أنا شخص قوي في العادة، ولكن حتى أنا لم أكن قادراً على أن أتماسك عندما رأيته من جديد. تشبثت به والدته ولم ترد أن تتركه، أحاطته بذراعيها وظلت تبكي طيلة 15 دقيقة..”